كنت حليق الوجه في بداية تأسيسي للحركة الإسلامية المغربية، حتى إذا زارني أحد طلبتنا وسألني عن حكم إسبال اللحية ابتسمت وتلمست وجهي، وأجبت: اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران 31، ثم أردفتُ: “وعليَّ وعليك من الآن أن نكف عن حلاقتها، جزاك الله خيرا يا ولدي”؛ والغريب الذي أثار انتباهي بعد ذلك أنني عندما زرت المملكة السعودية لحضور بعض المؤتمرات الإسلامية التقيت بكثير من قادة الإخوان المسلمين في المجال الفكري والحركي فوجدتهم حليقي اللحى ويجادلون فيها، وكذلك عندما زارنا بعض قادتهم في المغرب بعد أن تعرفنا عليهم.
لقد انتبهت بسؤال هذا الشاب اليافع إلى جانب أساس في التربية وإعادة التربية هو أن يطابق فعل الداعية قوله، وإلى أن فتياننا قد نضج وعيهم الديني، وعلينا جميعا أن يطابق ادعاؤنا دعوانا، فخصصت درسا مطبوعا لهذا المبدأ ووزعته على الجميع، فكانت فيه البركة وانصلح به من سلوك كثير من كبار حركتنا وصغارها ما كان في حاجة إلى إصلاح، وأخذ كل من رأى مخالفة في الصف زارني في البيت مخبرا، أحدهم زارني حول أخ كبير يسكن بحي شعبي وإحدى بناته سافرة، وآخر حول أخ كان يأخذ زوجته إلى السينما، وآخر كان يأخذها إلى البحر للسباحة، وقليل من كبارنا كان يدخن خلسة، إلا أن عملية التربية وإعادة التربية بالقدوة الحسنة والتنافس على اتباع الحق وتشجيع التناصح بالستر والحسنى، كل ذلك ساعد على ضبط الصف وتنقيته من شوائب العادات والممارسات.
وحينئذ انتبهت إلى ضرورة العناية بالفتيات بجانب ما نحاوله مع الفتيان، وأقنعت زوجتي- وهي مدرسة من أسرة محافظة متدينة – بضرورة تكوين خلية من طالبات المعاهد الثانوية وإعادة تربيتهم بالعقيدة السوية والخلق الكريم والالتزام الواعي القويم، فوجدت لديها كل استعداد وحماس، واتفقت معها على أن تخصص مساء كل جمعة لاستقبالهن في البيت، لا سيما والبيت في تلك الساعات من يوم الجمعة لا يكون فيه إلا أطفالي الصغار، وهم ما بين السنة الثانية والخامسة، أما ابني البالغ من العمر حوالي الثالثة عشرة من عمره فقد ألزمته أن يغادر البيت كل جمعة بعد تناول طعام الغذاء مباشرة ولا يعود إلا بعد المغرب، وطلبت من كل طالب من طلبتنا إن كانت له أخت في مستوى التعليم الثانوي، أن يبعثها إلى حلقة بيتي التي تشرف عليها زوجتي أم البنين.
وكنت قبل كل جمعة، مساء يوم الخميس أعد مع أم البنين ما تحتاجه من دروس تلقيها على الفتيات، وما تلقاهن به من الضيافة، فإذا حضرن صلَّت بهن العصر وأحيانا المغرب أيضا، وكانت الدروس الأولى مركزة على العقيدة والأخلاق من الكتاب والسنة، والالتزام بالعبادات والحجاب، بذلك كانت هذه الخلية أول ظهور للحجاب في ثانويات الدار البيضاء وإعدادياتها بل وطالبَتْ بعضُ فتياتنا بتأسيس قاعات للصلاة فيها، فأثار هذا الظهور وتلك المطالب صعوبات لفتياتنا في حياتهن الدراسية وردود فعل عنفوانية وعدوانية لدى بعض مديرات هذه المدارس ومعلماتها، ولكن فتياتنا تغلبن على كل ذلك بالصبر والمصابرة، وكانت الطالبة “عائشة” رائدة فتياتنا ونموذجهن في الحماس والالتزام والصمود ومواجهة صفاقة المعارضين والمعترضين لها في إدارة ثانوية شوقي بالدار البيضاء، فاقترحتْها أم البنين زوجة لأحد شبابنا وتم ذلك، ولكنها توفيت شهيدة – إن شاء الله تعالى – أثناء وضعها حملها الأول، رحمها الله وأحسن مثواها في الجنة.
أما ردود فعل بعض إخوتنا على نجاح أولى خطوات تأسيس الجناح النسوي، فكان أولها أن عرض أحد الإخوة الوعاظ نفسه للحضور في جلساتهن ووعظهن فرفضت ذلك، فاقترح أن يجعل بينه وبينهن حاجزا من إزار وغيره، فرفضت ذلك أيضا، وطلبت منه أن يرسل زوجتيه أو إحداهن مع ابنته إلى جلسات يوم الجمعة المقبلة مع الفتيات ولكن ظروفه لم تكن تسمح بذلك فاعتذر، وأفهمته أن المجتمع لا يرحم وليس من الحكمة أن نفتح ثغرة للشيطان أو لِقالَةِ السوء، وهم كُثْر، وحركتنا حديثة النشأة هشة العود، وأن الفتيات أمانة، وليس لنا شرعا أن نجالسهن أو أن نشجعهن على الاختلاط بالذكور، والمجتمع ما نرى، كله اختلاظ وما ينتج عن الاختلاط، إلا من رحم الله؛ بهذه الصرامة في حفظ الجناح النسوي تأسيسا وتسييرا نشأ جيل من الفتيات الرائدات الصادقات، وعلى هذا النهج سار حازما في التزامه سليما في عقيدته، مكتفيا بنفسه ورائداته الأوليات، بعيدا عن الذكور مربين أو مرشدين أو ناصحين، فاتنين أو مفتونين. ثم تكفَّلَتْ كلُّ فتاة آنست من نفسها القدرة على تربية غيرها بتكوين خلية من فتيات حيها الذي تسكنه أو مدرستها التي تدرس بها، وقامت بالإشراف عليها تربية وتعليما وتقويما، إلى أن حلت محنة سنة 1975 وهاجرت زوجتي وأبنائي إليَّ اضطرارا، فانفرط جمع هذا الجناح، وانعزلت رائداته ومريداته للعناية ببيوتهن وأزواجهن وأبنائهن، مما قد تتاح فرصة بيان أسباب ذلك مستقبلا إن شاء الله، فتُرِكَتِ الساحة للذئاب الملتحية ورائدات الحزبية السافلة، ومضلَّلي التَّمَشْيُخ الانتهازي المنحرف، وما يوم حليمة بسر.
مؤسس الحركة الإسلامية المغربية
فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني الهاشمي